اكتفى بملاحظة تكاد تكون من نافل القول: «ليس في البلدان المتحضّرة وزاراتٌ للإعلام.
أن أيّ وزارة للإعلام هي قيد على حرّية التّعبير والتفكير!»
طلب الرّئيس في هدوء الحكماء الذي يُعرف عنه، مزيدَ التّوضيح والشّرح. فاستطرد الوزير يفصّل موقف الحكومات من قضيّة الحرّيات في البلدان التي بلغت شوطًا كبيرًا في مجال حرّية التّعبير.
وذهب في وهم الوزير أنّه موضوع من المواضيع التي يتذاكرها بصفة عرضيّة بينه وبين رئيسه كعشرات الأحاديث التي تدور في المجالس. غير أنّه فوجئ بالرّئيس يدعوه إلى إعداد دراسة مدقّقة واضحة عن المسألة مدعّمة بالحجج والبراهين .
وبعد أسابيع، عاد الوزير يحمل التّقرير الذي طُلب منه. ودون تردّد، حين بانت المسألة ووجاهتها عند الرّئيس، اتّخذ قرار إلغاء وزارة الإعلام.
وهكذا كنتُ أوّل وزير يلغي وظيفته باقتراح منه! إنّها قربان قدّمتُه راضيًا مرضيًّا على مذبح حرّية التّعبير. ولولا الشّيخ حمد بن خليفة آل ثاني الأمير الوالد لدولة قطر ورؤيته التّحديثيّة العميقة لَمَا نجحتُ في مسعايَ ولما أفلحتُ في أن أكون آخر وزير قطريّ للإعلام.
والحقّ أنّني مارستُ في فترة من حياتي الكتابة الصّحفية وأعرف حقّ المعرفة ما يعيشه الصّحافيّون العرب من ضغط وقيود خانقة .
لذلك كنتُ مؤمناً، حين أقدمتُ على ما أقدمتُ عليه، بالحكمةالقائلة إنّ إشعال شمعةٍ خيرٌ من لعن الظّلام.
مركز الدّوحة لحرّيّة الإعلام
بيد أنّ هذا الذي وقع لم يُبعدني عن دنيا الإعلام الفاتنة ولميكن الطّلاق البائن بيني وبين مهامّ وزارة الإعلام طلاقًا من عالمالمعلومة والصّحافة والرّأي. لقد كان بداية مرحلة جديدة تختلف مضمونًا وسياقًا وآليّاتٍ عن المرحلة المنقضية. وفي هذا السّياق أسّستُ بمعيّة الشّيخ حمد بن ثامر آل ثاني ،«مركز الدّوحة لحرّية الإعلام» سنة 2008. ولم يكن قصدنا من وراء ذلك إلاّ المساهمة قدر الجهد في دعم حرّية الإعلام وتطويره على ما ينصّ عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ويكفله من حقّ لكلّ شخص في حرّية الرّأي والتّعبير باعتناق الآراء دون أيّ تدخّل واستقاء الأنباء والأفكار وتلقّيها وإذاعتها بأيّ وسيلة كانت دون التّقيّد بالحدود الجغرافيّة .
المؤسف أنّ هذا التّقييد الملحوظ في عالمنا العربي، كما في بلدان أخرى من العالم، يُصيب أكثر ما يصيب الإعلامَ والمثقّفين .
وتتبادر إلى ذهني فحوى مقابلة أُجريت لي مع صحيفة «العربي الجديد» سنة 2014طُرحت عليّ خلالها أسئلة تتعلّق بالمثقّف ولها صلة بما ورد آنفا. طلب الصحفيُّ رأيي بخصوص اتّهام للمثقّف بأنه أخفق في التعامل مع تداعيات الربيع العربيّ وأنّ مثقّفين عربًا كثيرين انحازوا لأنظمة الاستبداد والدكتاتوريّة، ضدّ تطلّعات شعوبهم. وكان ردّي أنّ الحكم قاسٍ وفيه درجة كبيرة من الظلم والتجنيّ ويُواجه المثقّف العربيّ إضافة إلى قيود السّلطة وصعوباتالمحيط تغييرات جذريّة في وسائل الإعلام لأنه جزء من المجتمع ولا يستطيع الخروج منه بجرّة قلم .
وإنّنا نجد أوجه شَبَهٍ بين طفرة القنوات الفضائيّة في العقدَين الأخيرَين من القرن العشرين والفورة المعلوماتيّة للقرن الواحد والعشرين. أسهمت هذه وتلك في تغيير سمات الإعلام العربيّ الرسميّ التي وصفها تقرير التنمية الإنسانيّة العربيّة منذ عام 2003 بالسلطويّة والأحاديّة والرسميّة .
لقد أبرزتُ سنة 2004 أنّ الإعلام الرسميّ وقتئذ سلطويّ «حيث تقتحم السّلطة الخطاب الإعلاميّ، وتفرض عليه موضوعاته وتوجّهاته وقيمه وحتى تفاصيله واختياراته وتوقيته. بل إنّ جلّه مكرّس لنشاط المسؤول ولقاءاته وتصريحاته التقليديّة الخالية من المحتوى». وهو كذلك أحاديّ «إذ يقوم الخطاب في الغالب بتغييب الآخر واستبعاده من المثول أمام الرأي العامّ»، كما هو رسميّ «إذ تقف النسبة الأكبر من المؤسّسات الإعلاميّة العربيّة في حيرة من أمرها أمام بعض أو معظم الأحداث والمواقف السياسيّة الطارئة انتظارًا للتعليمات ويتمّ تجاهل أحداث ذات أهمّيّة.»
النقطة المضيئة في المشهد الإعلاميّ لذلك العصر أي «ما يبشّر بالخير أنّ هذه السمات آخذة في التآكل ليس بقرار وإنما لمستجدات فرضت نفسها على المسؤول ومن ضمنها القنوات الفضائيّة». ويمكن تحديث محتوى خطابي آنذاك بأن نستبدل اليوم«القنوات الفضائيّة» بمصطلح «الميديا الجديدة». وما زلتُ علىرأيي بأنّ «تأثير هذه القنوات لم يقف فقط عند العنصر الأساسيّفي العمليّة الاتّصاليّة وهو الجمهور أو المتلقّي، وإنّما تعدّاها ليعيد هذا التأثير ترتيب أجندة الوسائل الإعلاميّة الأخرى عربيّة أو غربيّة مكتوبة أو مسموعة أو إلكترونيّة، بل وفرضت تأثيرها وقوتها أيضًا في دوائر صنع القرار وأجندة المواطن العربي.» ثورة الميديا الجديدة: سؤال النخبة والجمهور
من الكتب ذات الشأن التي أتيحت لي الفرصة أن أطّلع عليها مؤلَّف حديث للصادق الحمّامي بعنوان «الميديا الجديدة وبالنظّر إلى رجاحة تحاليل الباحث في هذا المجال وتعمّقها لدرجة أنّها لامست أُسُس البنية التي قامت عليها وسائل الإعلام وخطاب الباثّ والمتلقّي، وجدتُ من المفيد أن نسلّط الأضواء على بعض الجوانب الهامة التي تناولها، وهي ركن أساسي في هذا الفصل ،ونحن في سياق استعراض الحديث عن الدبلوماسية الثقافية والإعلام والميديا الجديدة.
لا ريب في أنّ ما يسمّى الويب 0.2 قد قلب، رأسًا على عقب ،الهرميّة القائمة على ثنائيّة النخّبة المختصّة التي تُنتج المعلومة وتُطوِّع المعنى وعامّة الناّس )الجمهور( الذين يكتفون بتلقّي المعلومات والمعاني. لذلك كان السّؤال الذ إنّ وراء هذا السّؤال الحارق إحساسًا بتحوّل مهمّ تشهده البشريّة وضع سلطة المثقّف موضع استفهام. ولكنهّ يُبرز ضمنيًّا أنموذجًا قام عليه الإعلام منذ ظهور الصّحافة واشتغل وفقه يتلخّص في طابعه النخّبويّ والعموميّ والسّلطويّ.
والرّأي عندي أنّ النموذج المؤسِّس لوسائط الإعلام الكلاسيكيّة من صحافة وإذاعة وتلفزيون قد بُني على الفصل بين مجال البثّ ومجال التلقّي. وتقتصر وسائل المشاركة في المجال العموميّ والنفاذ إليه في وسائط الإعلام ووسائل إنتاج الخطابات العموميّة على الاستهلاك السّلبيّ. وهي مجالات احتكرَتها النخُّب السياسيّة والثقافيّة والإعلاميّة بناء على شرعيّة تمثيليّتها للمجتمع برمّته وفق رؤيتها. وهذا ما يفسّر وفق المنطق ذاته أن يتحدّث المثقّف والصحفيّ والسياسيّ باسم «الأفراد والجماعات الصامتة» بفضل تملّكهم للّغة وللمعرفة ولأدوات الخطاب والمحاجّة ووسائل إنتاج الأفكار. إذ تعتقد النخُّبة من هذا المنظور أنّها تحمل الوعي المجتمعيّ وأنّها وحدها قادرة على التعبير عنه.
في المقابل نجد الجمهور في شكل كتلة هلاميّة تستهدفها النخبة عبر بثّ الرسائل الإعلاميّة .
وقد صيغ مصطلح «الثقافة الشعبيّة»، بشحنته التحقيريّة غير الخافية، ليضع تمييزًا بين ثقافة عالمة وثقافة غير عالمة لكلّ منهما قواعدها وآليات اشتغالها. أمّا مصطلح «الإعلام الجماهيريّ» فيختزلالبنية الأحاديّة والعموديّة والسلطويّة للإعلام الكلاسيكيّ المُشارإليه آنفًا، بما أنّ جمهور وسائط الإعلام هم القرّاء والمستمعونوالمشاهدون .
ومن بين وظائف الإعلام الجماهيريّ من منظور الرؤية السائدة أن يرتقي بالجمهور إلى وعي أعلى وذائقة أجود، وألاّ يخضع إلى أهوائه كي لا يسقط في الابتذال وثقافة الرّعاع على معنى القاعدة التجاريّة البحتة.
اللافت في هذا الصّدد موقفٌ لا يميل مع أهواء الجمهور وتتبناّه قامات سامقة في عالم الأدب على غرار جوزيف برودسكي الذي يقول في محاضرته يوم تسليمه جائزة نوبل للأدب: «إنّ الفنّ عمومًا والأدب خصوصًا، ولاسيّما الشِّعر لا يجد مساندة حقيقية من أبطال المصلحة العامة وسادة الجماهير. تنتشر اليوم وجهة نظر يتشاطرها الكثيرون تفترض أنّ على الكاتب، والشاعر بوجه خاص ،أن يستخدم في أعماله لغة الشارع ولغة الجماهير. وعلى الرغم من مظهرها الديمقراطيّ ومزاياها الملموسة للكاتب، إلاّ أنّ مثل هذا الادّعاء سخيف جدًّا ويُمثّل محاولة لإخضاع الفنّ، والأدب في الحال الراهنة إلى التاريخ. إذا ما أقررنا جدلاً بأنّ الوقت حان للإنسان العاقل كي يتوقّف عن التطوّر، يمكن حينئذ أن يتحدّث الأدبُ بلغة الناس. وإلاّ فينبغي على الناس أن يتحدثوا لغة الأدب ».والمطلوب، في تقديري، هو عملية في اتجاهَين لا يجوع فيها الذئب ولا يشتكي الراعي. إنّ الرقيّ بالخطاب واللغة والمضامين عمل متواصل وممكن التحقيق أثبته المبدعون بكل لغات العالم .وفي الوقت نفسه ينبغي عدم التعالي على المتلقّي بما يخلق لديه شعورًا منفّرًا يحول بينه وبين عالم الإبداع ويُنتج الانشطار المهلك بين المُبدع والمتلقّي. وقياسًا على لغة الإبداع في تساميها، يمكن الحديث عن لغة الإعلام في تحقيقه للمعادلة الدقيقة بين تطوير ذائقة الجمهور ووعيه والحرص على وضوح الخطاب وتبليغه ،فالبلاغة في نهاية المطاف هي التبليغ.
إنّ وقار العلماء ينسجم تمامًا مع تواضع الحكماء.
ويبدو الجمهور في المجتمعات غير الديمقراطيّة على هيئة الثقب الأسود الذي تتهاوى داخله المضامين والرسائل الإعلاميّة دون رجع صدى. يستهلك الجمهور ويصمت، أو بتعبير فرنسي شاع في سبعينات القرن العشرين: «كوني جميلة والزمي الصمت!». لكن «الرأي العام» في المجتمعات الديمقراطيّة يشكّل السلطة المضادّة التي تُعبّر عن آراء الأفراد بطريقة ديناميّة. فتهابه النخُّب السياسيّة وتسعى بكل الوسائل إلى دراسته وتحليله بهدف استباق ميولاته وتخمين اتجاهاته وإرضائه طبعًا .
وقد سبق أن أشرنا إلى أنّ العلاقة العموديّة بين الباثّ والمتلقّي بصدد التغيّر نتيجة الفورة الإعلاميّة. فالجمهور أصبح يُنتج المحتوى بفضل الميديا الجديدة ولا سيما وسائل التواصل الاجتماعيّ التي أثبتت
الأفراد بطريقة ديناميّة. فتهابه النخُّب السياسيّة وتسعى بكل الوسائل إلى دراسته وتحليله بهدف استباق ميولاته وتخمين اتجاهاته وإرضائه طبعًا .
وقد سبق أن أشرنا إلى أنّ العلاقة العموديّة بين الباثّ والمتلقّي بصدد التغيّر نتيجة الفورة الإعلاميّة. فالجمهور أصبح يُنتج المحتوى بفضل الميديا الجديدة ولا سيما وسائل التواصل الاجتماعيّ التي أثبتت جدواها خلال ثورات الربيع العربيّ وكانت وسيلة التعبير والحشد والتنظيم والتواصل عمومًا بين أعداد كبيرة من المستخدمين . الأفراد بطريقة ديناميّة. فتهابه النخُّب السياسيّة وتسعى بكل الوسائل إلى دراسته وتحليله بهدف استباق ميولاته وتخمين اتجاهاته وإرضائه طبعًا .
وقد سبق أن أشرنا إلى أنّ العلاقة العموديّة بين الباثّ والمتلقّي بصدد التغيّر نتيجة الفورة الإعلاميّة. فالجمهور أصبح يُنتج المحتوى بفضل الميديا الجديدة ولا سيما وسائل التواصل الاجتماعيّ التي أثبتت جدواها خلال ثورات الربيع العربيّ وكانت وسيلة التعبير والحشد والتنظيم والتواصل عمومًا بين أعداد كبيرة من المستخدمين .
وتُظهر الأرقام في دول الخليج العربيّ على سبيل المثال أنّهناك ما يفوق 22مليون مستخدم من مجموع 7.50 مليون نسمة)2914 (، وتُشير بيانات وزارة الاتصالات القطريّة وجهازالإحصاء القطريّ وصندوق النقد الدوليّ ومنتدى الاقتصاد العالميّ إلى أن نسبة مستخدمي الإنترنت في قطر بلغت 98% وتحتلّ قطر المرتبة 23 من بين 137 دولة عالميًّا في مؤشّر جاهزيّة الشبكة .ونلاحظ نسبة عالية من مستخدمي الفيسبوك 1,320,000) من جملة 2,200,000
نسمة( في حين أنّ مستخدمي تويتر يُقدّرون بـ)112,000
مستخدم (. والجدير بالذكر أنّ نصف مستخدمي الفيسبوك تقريبا تتراوح أعمارهم ما بين 19-29سنة. أمّا الأنشطة الأساسيّة على شبكات التواصل الاجتماعيّ فهي على التوالي: إجراء المحادثات ثم نشر المعلومات والتعبير عن الرأي وتبادل الملفّات.
يُقدّم الفيلسوف وخبير الإعلام الفرنسيّ ريجيس دوبريه أطروحة جادّة حول العلاقة بين الثقافة ووسائط الإعلام ويؤسّس لعلم الميديا من خلال التركيز على «النقل التكنولوجيّ للأشكال الثقافيّة». إذ يرى أنّ هناك ثلاثة مجالات وسائطيّة تقنيّة واجتماعيّة حكمت التاريخ الثقافيّ الإنسانيّ: المجال الوسائطيّ الخطابيّ المعتمد على الاتصال الشفاهيّ، وتلاه المجال الوسائطيّ الكتابيّ الذي يعتمد على الكتابة، ثم المجال الوسائطيّ السمعيّ والبصريّ الذي سادت فيه الوسائل السمعيّة البصريّة.
ويذهب الصادق الحمّامي على الوتيرة ذاتها إلى أنّ الخطابالسائد يعتبر الميديا الجديدة قطيعة مع الإعلام الكلاسيكيّ منحيث التكنولوجيا التي توظّفها والنماذج التي تحكمها والمضامين التي تنتجها. وهي مجال تتكوّن داخله أشكال إعلامية مستحدثة وممارسات تواصليّة لم تعرفها المجتمعات البشريّة من قبل مثل الصحافة الإلكترونيّة وإعلام المواطن وشبكات التواصل الاجتماعيّ والمدوّنات وغيرها .
وتعقيبًا على دوبريه وعلى الحمّامي يمكن التساؤل إن كانت الميديا الجديدة بدأت تُشكّل مجالاً رابعًا بعد الثلاثة المذكورة يختلف الوسطاء فيه عمّن سبقهم بما أنّهم ولأوّل مرة يتكوّنون من الجمهور نفسه الذي يُنتج المحتوى والمعنى وليس النخبة المعتادة التي دأبت على احتكار هذه الوظيفة ووسائطها.
وقد سبق لي أن كتبت يوما ما يلي:
«أدّت التطوّرات في مجال الإعلام إلى سرعة تداول المعلومات والآراء عبر الصحف والإذاعات والفضائيّات والإنترنت، وهو الأمر الذي أحدث هزّة كبيرة في الوطن العربي، وصارت مصدرًا للقلق والخوف لدى النظّم الحاكمة. وربّما تعود المشكلة إلى خروج بعض أجهزة الإعلام والصحافة العربيّة عن دوائر التأثير الحكوميّ والسيطرة الرسميّة، فوسائل الإعلام العربيّة والمملوكة للحكومات العربيّة أو المسؤولين فيها أو لوكلائهم ظهرت عاجزة أمام أجهزة إعلام ذات تأثير خرج عن النطاق المعتاد، وأصبحت متنفّسًا للمواطن المغيّب، وأصبح حضور القارئ والمشاهد العاديّ ملحوظًا على صفحاتها وفي برامجها. أتاح هذا التطور الفرصة أماممفكّرين وكتّاب وأصحاب رأي ممّن ضاقت بهم أجهزة الإعلامالرسميّة لطرح آرائهم وأفكارهم دون وصاية أو ضغط، وإن كانالأمر لم يخلُ من دخلاء من هنا أو هناك. يمكن تفسير ذلك بأنّ هذا النوع الجديد من أجهزة الإعلام بدأ يكتشف جوانب لم تكن معروفة من قبل، وصار له دور في تحديد الشفافيّة ومستواها، ويتحدث بلغة كانت غائبة وبشكل أدّى إلى تراجع تأثير خطاب المديح التقليديّ المنفّر». )الكوّاري: 243-244
ولا يمكن في هذا السياق أن نتغاضى عن ظاهرة إعلاميّة فريدة في الوطن العربي امتدّ تأثيرها إلى كل العالم وهي قناة «الجزيرة »القطريّة التي ظهرت في العقد الأخير من القرن العشرين في خضمّ مشهد إعلاميّ راكد ومنفّر تُمثل الفضائيّات فيه أبواقًا تصدح بصوت القائد للتمجيد والمديح كما ذكرنا أعلاه. وسواء اتّفقتَ مع خطّها التحريريّ أو اختلفتَ، فقد شكّلت الجزيرة ظاهرة إعلاميّة نشطة حرّكت مياه الإعلام العربيّ الراكدة واستقطبت عشرات الملايين من المشاهدين المتعطّشين لمقاربات إعلاميّة مختلفة، وهي كذلك المحرّك الذي حفّز ظهور قنوات فضائيّة مماثلة في جرأتها ومقاربتها على غرار قناة «العربية» » و«سكاي نيوز» وغيرها وقناة فرنس 24
في التلفزيون العموميّ: قضايا ورهانات
يؤدّي التلفزيون العموميّ وظائف سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة وثقافيّة حيويّة، ولذلك فإنّ استحواذ المؤسّسات الخاصّة على جلّ الفضائيّات مقابل احتكار الدولة لها في العقود السابقة لم ينتج عنهالتخلّي عن الإعلام العموميّ، بل هو ظلّ خدمة عامّة يُفترض ألاّتخضع لمنطق السوق )الجيزاوى ،2005،ص187
وتضمن التعدّديّة الفكريّة والسّياسيّة بوصفها انعكاسًا للفسيفساء المجتمعيّة .
كما يُفترض أن يُقدّم التلفزيون العموميّ تلك الخدمات التربويّة والاجتماعيّة والثقافيّة )بما فيها الإنتاج السمعيّ البصريّ( التي لا يُنتجها التلفزيون الخاصّ بسبب محدوديّة جدواها الاقتصاديّة .
ولذلك يُموّل دافع الضرائب قنوات على غرار تي أف 1 الفرنسيّة وبي بي سي البريطانيّة وقنوات راي الإيطاليّة ودويتشه فيله الألمانيّة وجلّ القنوات الوطنيّة في كلّ بلد على حدة.
وبالنظر إلى تطوّر وسائل التواصل الحديثة يبرز السؤال حول وظائف التلفزيون العموميّ في سياق الميديا الجديدة. هل الإنترنت مثلاً وسيلة إضافيّة يلجأ إليها للتعريف بوظيفته كخدمة عامّة أم إنّها ستفتح للتلفزيون العموميّ أبوابًا
جديدة ووظائف أخرى على غرار التشارك والتّفاعل والتّجدد المستمرّ لمتابعة السياقات السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والاجتماعيّة المتغيّرة باستمرار؟
ولئن كان التّلفزيون العموميّ، بأسبقيّته التّاريخيّة وارتباط نشأته بالدّولة، عنوان الإعلام الكلاسيكيّ فإنّه كان يمثّل مؤسّسة ثقافيّة تضطلع بوظائف اجتماعيّة متنوّعة علاوة على وظائفه السّياسيّة .
بيد أنّ التّحوّل الأساسيّ حدث مع ظهور الإذاعات والتّلفزيونات الخاصّة ودخول رأس المال والمجموعات التّجاريّة دنيا الاستثمار
في الإعلام. وللخواصّ بطبيعة الحال أهداف مغايرة واستراتيجيّةربحيّة غير خافية. ولا خلاف في ما بلغه الإعلام الخاصّ من تطويرتقنيّ وجماليّ للمشهد السّمعيّ البصريّ بإطلاق المبادرات والبحثعن الطّريف المتميّز داخل سوق الإعلام والإعلان وما تقوم عليه من منافسة شرسة. لذلك مثّل انتقالاً من التّركيز على الوظائف الاجتماعيّة والثّقافيّة إلى التّوجّه نحو التّرفيه والإثارة لجلب المستمعين والمشاهدين. وامتزجت أخلاقيّات العمل الصّحفيّ بالتلاعب بتقنيّات الإعلان والتّسويق. فظهرت انحرافات عديدة سواء في انتقاء الأخبار بحثًا عن الواقع لدى الرّأي العام على حساب أصول المهنة وقاعدتها الأخلاقيّة. وممّا زاد الأمر تعقيدًا التّرابط بين مصالح الأفراد أصحاب رأس المال والمجموعات التّجاريّة وبين الطّموحات والأدوار السّياسيّة التي يمكن أن يساهم الإعلام، بما له من قدرة على الاستمالة والتّوجيه والتّأثير، في تحقيقها وتسهيلها.
بسبب من هذا الدّور المتنامي عالميًّا للقطاع الخاصّ في مجال الإعلام وما أفضى إليه من نزعة احتكاريّة وخطر التّوظيف السّياسيّ والتّنميط الثّقافيّ وغلبة التّرفيه فإنّ الحاجة إلى الإعلام العموميّ ما تزال قائمة ليكون قوّة تعديليّة داخل المشهد السّمعيّ البصريّ في كلّ دولة، عسى أن يرسّخ أخلاقيّات العمل الإعلاميّ في اختيار الخبر وصياغته وإتاحة الفرصة لمختلف الآراء وإدارة النقّاش العام والحفاظ على الدّور التّثقيفيّ والاجتماعيّ باعتباره خدمةً عامّةً تُمَوَّلُ من أموال دافعِي الضّرائب.
أفليست الدّيمقراطيّة الحقّ تتمثّل في توفير حرّية التّعبير وبنائها على حقّ المواطن في الإعلام ومشاركته في الشّأن العام؟ فأينالإعلام الخاصّ، بأهدافه التّجاريّة وحرصه على توفير أكبر قدر منالإيرادات الإعلانيّة، من هذه الأهداف الحقوقيّة الكبرى؟
ولا تغرّنّنا فورة الفضائيّات الخاصّة في عالمنا العربيّ أسوة بما يوجد في شتّى أقطار المعمورة. فما يزال الإعلام العموميّ، في تقديري، ضروريًّا لبناء مجتمع متوازن تعدّديّ يقبل الاختلاف .
فهذا الضّرب من الإعلام بمثابة صمّام الأمان للمجموعة ولكلّ من لا يملك المال الكافي لتبليغ صوته عسى أن تتحقّق جوانبُ من المواطنة التي تنبني على حرّية الفرد والمشاركة في صنع الرّأي والقرار المتّصلَين بالشّأن العامّ.
وأريدُ أن أعرّج كذلك إلى بعض النزّعات الجديدة في عالمنا اليوم وإن كان الإعلام العربيّ لا يعيشها بقوّة. ولكنّ رفرفة فراشة في مكان من العالم قد تثير عندنا رياحًا عاصفة كما أضحى معلومًا من الجميع.
لقد أضحَت كثير من الإذاعات اليوم تتّجه نحو الإعلام المحلّي في الأقاليم والجهات وحتى الأحياء. وهو توجّه محمود لأنّه يحقّق ما يسمّى «بإعلام القرب» أي اقتراب أهل المهنة من مصدر الخبر ومن شواغل المواطنين لصنع «أغورَا» في كلّ مكان يعزّز الشّعور بالمواطنة ويجسّد الحقّ في الإعلام والمعلومة في دوائر ضيّقة.
وبالتّوازي مع ذلك ظهرت نزعة إلى الإعلام المتخصّص في مجال من المجالات كالإعلام الاقتصاديّ أو الرّياضيّ أو السّياحيّ أو النسّائيّ أو الموسيقيّ )وأحيانًا لصنف معيّن من الموسيقى كالجاز مثلاً(. وهو كذلك توجّه محمود لأنّه يستجيب لتنوّعحاجيّات المستمعين وأذواقهم ويوفّر مادّة معمّقة مدقّقة تسعى إلىالإحاطة بهذا المجال أو ذاك إحاطة شاملة.
وجماع هذَين التّوجّهَين إيجاد توازن ما بين الطّابع الجماهيري لوسائل الإعلام بتوجّهها إلى جمهور متنوّع والطّابع الفرديّ الذي تقوم عليه المجتمعات الدّيمقراطيّة بما أنّ ميولات الفرد ووجوه استقلاليّته وتعدّد الفئات الاجتماعيّة واتّساع حاجيّاتها أضحت متنوّعة شديد التّنوّع.
ورغم ذلك فإنّني أعتقد أنّ وسائل الإعلام العموميّ ذات الطّابع الشّامل ما تزال ضرورة قصوى، لا لوظائفها التي ذكرناها سابقًا فحسب بل بسبب هذه النزّعات إلى التّدقيق واستهداف قطاعات أو جهات. فالإعلام الشّامل هو الرّابط بين الأفراد مهما اختلفوا والجماعات مهما تعدّدت. إنّه إعلام يُساعد على إخراج المحلّيّ من محلّيّته، رغم ضرورة الاهتمام المجهريّ بالقضايا المحلّيّة، وإنقاذ التّخصّص من خطر النظّرة الجزئيّة رغم أهمّية العناية بالتّفاصيل. وفي هذا وذاك، تتحقّق وظيفة التّعاون الجماعي وبناء الهويّة المشتركة .فالتّواصل والحوار بين الأفراد والجماعات وتمتيعهم جميعًا بحقّ التّعبير في الإعلام والمشاركة في بناء الأفكار هو الضّامن للمواطنة بقدر ما هو الضّامن للهويّة الوطنيّة. فلا معنى للفصل بين حقوق الأفراد المواطنين وواجب الانتماء إلى وطن جامع ودولة تنظّم العيش المشترك. فدور الإعلام في بناء الهويّة الوطنيّة وحمايتها وإثرائها لا يقلّ عن دور المدرسة. وهو إلى ذلك خدمة اجتماعيّة شأنها شأن الصّحة والأمن.
التلفزيون الفنّيّ: اللقاء الأوّل المتاح للجميع
أودّ في هذا الصدد أن أُشيد ببعض التجارب الرائدة المهمّة فيمجال الإعلام المتخصّص. وسأذكر تجربة أراها صورة من صور الإعلام الذي يكمّل فعلا الإعلام العموميّ ويذهب شوطا بعيدا في جعل الثقافة الراقية متاحة للجميع ويُنمّي المعرفة بالآخر ويشارك بطريقة من الطرق في بناء السلم في عقول البشر ووجدانهم ...
وعيونهم أيضا.
فإلى حدود نهاية القرن التاسع عشر كانت الموسيقى الراقية متاحة حصريًّا في المسارح وفي الأوبرا، أي أنها كانت للنخبة حصريًّا، سواء كانت نخبة ثقافيّة أو اقتصاديّة أو سياسيّة أو غيرها .
وما كان من الممكن الاطّلاع على الموسيقى والاستمتاع بها إلا في هذه القصور الفخمة. ثمّ شكّل المذياع ثورة حقيقيّة في هذا المجال إذ نشر الموسيقى في كل أرجاء العالم وأصبح المزارع البسيط والعامل والمرأة في البيت يعرفون شتى أنواع الموسيقى ويستمتعون بها. وعلى هذا النحّو عرف الغربُ الموسيقى العربيّة والإفريقيّة وعرف العربُ الموسيقى الغربيّة كما عرف سكان جنوب أمريكا الموسيقى القارّيّة وغيرها
لكنّ هذه الثورة لم تحصل في الفنون البصريّة كما تقول إليزابيت ماركيفتش مؤسّسة القناة التلفزيّة الفنيّة «إيكونو» . فالأعمال الفنيّّة الكبرى مركونة في المتاحف أو متاحة في بعض المعارض فقط ،ولا يمكن الزعم بأنّ الجميع يزورون المتاحف أو المعارض إذ من الصعب على مواطن من بلد إفريقيّ أن يزور متحف المتروبوليتان في نيويورك، ومن الصعب على مواطن من أمريكا الجنوبيّة أن يزورمتحف اللوفر في باريس. فالتمتّع بالتحف الفنيّّة وإبداعات كبارالرسّامين يُحرم منه أغلب الناس على المعمورة. ومن هنا نشأت فكرة إطلاق قناة تلفزيّة تعرض مختلف التحف الفنيّّة من كل أرجاء العالم ومن كل الثقافات والفنون بداية من النقوش الحجريّة لمغارة لاسكو التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ وصولا إلى التصاميم الهندسيّة الحديثة.
لقد اختارت هذه القناة شعارًا دالاًّ هو «لنتَرُك الفنّ يتحدّث بنفسه». لذلك لا توجد نصوص ترافق الصور المعروضة ولا تعليقات ولا صوت. إذ تتحدّث صورة العمل الفنيّ لوحدها حتّى تسمح للجميع أيًّا كانوا بالاستمتاع بتلك النظرة الأولى إلى العمل الفنيّّ. بعد ذلك، يمكنهم أن يكتفوا بذلك التواصل الأوّل أو أن يُعمّقوا معارفهم إن رغبوا.
تتحدّث إليزابيت ماركيفتش عن «اللقاء الأول» على المعنى الذي قصده الأديب الفرنسيّ أندريه مالرو عندما تلتقي العين بعمل فنيّّ لأوّل مرّة. قد نشيح بنظرنا ونمرّ مرّ الكرام، وقد يثير فينا حبّ الاستطلاع فنقترب أكثر، وقد يدهشنا منذ الوهلة الأولى فنشعر بانجذاب قويّ لا نعرف أسبابه بالكامل. فأوّل اتصال لنا بلوحة فنيّّة على سبيل المثال هو «نظرة»، أي تواصل بالعين يمكن وصفه بالتفاعل الحسّيّ الوجدانيّ، وبعد ذلك قد نتوقّف وقد نفكّر في العمل وقد نتطلّع إلى ما كتبه النقّاد وخبراء الفنّ إلى غير ذلك. لكنّ النظرة الأولى تُشكّل المادّة الخامّ التي تربطنا باللوحة الفنيّّة .تتيحُ قناة «إيكونو» النظرة الأولى واللقاء الأول مع الأعمالالفنيّّة، وهي تستحقّ الثناء على ذلك. واللافت أنّ ماركيفتش بدأتفي تأسيس مشروعها في الفترة نفسها التي ظهرت فيها قناة «يوتيوب »في أواسط العقد الأوّل من القرن الواحد والعشرين. ولا يخلو هذا من دلالة سنأتي إلى بيان جوانب منها في الفقرات الموالية.
إعلام المواطن: حين يتكلّم الفرد المغمور!
ليس ما قلناه عن الإعلام العموميّ والخاصّ أو الإعلام الشّامل مقابل الإعلام المتخصّص أو إعلام القُرب إلاّ صورة من صور تعقّد المجتمعات الحديثة ووسائلها التي أوجدتها للتّواصل. ولكنّ النقّلة التّكنولوجيّة الهائلة زادت هذه الصّورة تعقيدًا وتركّبًا. ونقصد هنا بالخصوص وأساسًا الإنترنت وما يصحبه من ظواهر عديدة متسارعة يمتزج فيها الصّوت بالصّورة والكتابة.
ولا يتّسع المجال، ونحن نركّز على التّواصل والحريّة في الفضاء العموميّ، للحديث عن جميع الظّواهر أو جُلّها. ولكننّي أودّ الإشارة إلى ما أحدثته هذه التّكنولوجيّات الحديثة من انكسارات وقطائع معرفيّة جديرة بالانتباه أراها في عمومها، رغم التّحفّظات والمخاطر، ممّا يُدعّم التّواصل بين الناّس ويُوسّع فضاء الحرّية الفرديّة والجماعيّة.
إنّني أشاطر الصادق الحمّامي الرأي في أنّ ظهور الإنترنت كَسَرَ أوّل ما كَسَر الفصل الصّارم بين الجمهور والنخّبة. وليس هذا الفصل متعلّقًا بماهية كلّ منهما أو بالحدود بينهما كما قد يبدو لأوّلوهلة بل بأدوارهما ورهاناتهما. فنحن نرى اليوم المواطن نفسهيصنع المعلومة ولو في صيغة خامّ ويُبلّغها بطريقته ويّنتج الأفكار التي يبثّها من هاتفه الجوّال أو حاسوبه الشّخصيّ بعد أن خرج من دور التّلقّي السّلبيّ والخضوع لسلطة المختصّين في صنع الخبر والتّعليق عليه.
إنّنا أمام ديناميّة جديدة في إنتاج المعلومات وتلقّيها. ومأتى هذه الديناميّة الجديدة توافر التّطبيقات الإعلاميّة الميسّرة للنشّر والتّرويج بما يعني إتاحة وسائل إنتاج المعلومة لأوسع قطاع ممكن.
وإذا دقّقنا النظر في هذا الانكسار التّاريخيّ حقًّا تأكّدنا من أنّ مفهوم السّلطة في باب الإعلام، بما تعنيه من احتكار لوسائل إنتاج المعنى، قد اتّسعت وأدمجت في فضائها الأفراد المغمورين وعموم الجمهور. لذلك لا نستغرب، في فترة ازدهار المدوّنات الشّخصيّة ،سطوع نجم عديد المدوّنين في مجتمعات مختلفة أو متابعة الآلاف المؤلّفة لتغريدات أسماء بعينها على شبكة «تويتر». بل إنّ كبار المثقّفين والأدباء وحتى النجّوم من رجال الإعلام الذين يفترض أنّهم أمراء الصّحافة وسادتها صنعوا لأنفسهم مدوّنات في المواقع الإلكترونيّة للصّحف الكبرى التي يشتغلون فيها. وهم يقدّمون آراءهم مثل سائر «الصّحفيّين المواطنين». لقد فهموا انحسار سلطتهم بانحسار سلطة الصّحافة المكتوبة بالخصوص وفهموا أكثر أنّ هذه الصّيغ الجديدة كالتّدوين والتّغريد أشدّ وقعًا لدى المواطنين .فما يقومون به إنّما هو تدارك، من جهة، لانحسار سلطة المكتوب وتنازل، من جهة أخرى، بالدّخول إلى عالم «الكتابة الرّقميّة» التيتصنع في الأصل سلطة «الصّحفيّ المواطن» باعتباره فردًا مغمورًاحسب تعبير الصادق الحمّامي.
وأطرف ما في الأمر أنّك تقرأ في واجهة الشّاشة، على تويتر وفي مواقع التّدوين لصديق افتراضيّ أو واقعيّ مغمور ما يكتبه وتنتقل بعد ذلك إلى ما خطَّه قلم رفيع المستوى مشهور لتعود، وأنت تتابع التّسلسل الخطّي- الزّمني للتّعليقات أو التّدوينات، إلى صديق آخر مغمور وهكذا دواليك. لقد انحسرت النخّبة الإعلاميّة والثّقافيّة ،حقيقةً ومجازًا، ضمن عموم الناّس والمواطنين بعد أن نزلت من عليائها إلى الشّوارع أو فقدت هالتها القديمة وأسرارها الدفينة التي صنعتها لتنكشف أمام الدّهماء! وعلينا أن نقدّر هذا الأمر حقّ قدره مهما كانت انعكاساته ومآلاته إيجابيّة أو سلبيّة.
وما كان لهذا أن يقع لولا السّهولة الكبرى التي تتيحها الإنترنت في إنشاء المواقع والحسابات الشّخصيّة على الشّبكات الاجتماعيّة المختلفة والمدوّنات الشّخصيّة وإدارتها وبالخصوص مجّانيّتها والطّابع التّفاعليّ الذي يميّزها تدويناً ونشرًا وتعليقًا وردودًا ومحاورة... إلخ.
ما حدث، على بساطته الظّاهرة، إنّما هو قطع جذريّ مع أهمّ وسيط للمعلومة وهو الصّحفيّ. فقد أدّت هذه الصّيغ الجديدة في نشر المعلومة إلى تحويل أيّ مواطن مشترك في الشّبكة إلى صحفيّ بالقوّة. وما حدث بعد ذلك، في مستوى الرّأي الحرّ والتّعليق، هو كسر لاحتكار النخّب المثقّفة والإعلاميّة الحقَّ في إبداء الرّأي.
لكنّ الأمر في ظنيّ أبعد شأوًا: إنّه يتّصل بمفهوم السّلطة نفسها .
فما نشهده هو تحوّل السّلطة إلى ذرّات وانتشارها وتفتّتها. فمن المعلوم أنّ النخّب المثقّفة، ومنها بالخصوص النخّب الإعلاميّة ،كانت في الأغلب الأعمّ متحالفة مع النخّبة السّياسيّة. وهو تحالف يتّخذ مظاهر عديدة وينبني على مصالح هذا الطّرف أو ذاك. فيكون أحيانًا خفيًّا كأن يُمدّ السّياسيُّ رجُلَ الإعلام بالسّبق الصّحفي أو الملفّات التي تثير الانتباه ويكون أحيانًا أخرى مفضوحًا فاضحًا ليصل إلى حدّ التّمجيد والتّملّق. وهذا أمر شائع في العالم كلّه يعرفه الجميع
ويسكت عنه الجميع لأنّه ليس بالأمر العرَضيّ بل لعلّه قائم منذ نشأة الإعلام. ومثل جميع الظّواهر التي تنمو دون التّوقّف عندها تأمّلاً وتفكيرًا، يخلق الناّس في أذهانهم تصوّرات تعسّر عليهم أن يكتشفوا زيفها. ولكنّ السّؤال الأهمّ هو: من يثق اليوم في مصادر المعلومات الرّسميّة خصوصًا حين تكشف الفيديوهات التي يصوّرها المواطنون من زوايا مختلفة متطابقة أنّ هذه المسألة أو تلك لم تَحدُث كما ذكرتها تلك المصادر؟ والأدلّة على هذه الفيديوهات التي يُنزّلها مواطنون مغمورون في الشّبكات الاجتماعيّة أكثر من أن تُحصى حتى أصبحت وسائل الإعلام نفسها ،الرّسميّ منها والخاصّ، تعتمد عليها في نقل بعض الأحداث التي لم يستطع المصوّرون الصّحفيّون المحترفون الوصول إلى مواقعها لكشف الحقيقة. فأعظم مصوّر «صحفيّ» يمتلك السّبق الإعلاميّ اليوم هو المواطن المُسلّح بهاتف جوّال ذكيّ؟ فالصّورة أصدق إنباءً من نشرات الأخبار.
وتَبرز قيمة الصورة في مواقع كثيرة على الشبكة لعلّ من أهمّهاموقع إنستغرام الذي أتعامل معه بانتظام.
لقد كان لديّ انطباع أنّ عملي سفيرًا لمدة طويلة أو وزيرًا لفترة أخرى جعل الناس تعرف عنيّ ما يجب أن تعرف عن شخصيّة عامّة من المجال الدبلوماسيّ والثقافيّ... لكن هذا الانطباع تغيّر تمامًا عندما بدأتُ أتعاملُ مع موقع «إنستغرام» كوسيلة من وسائل التواصل مع الناس. وبدا من متابعاتهم وتجاوبهم وتعليقاتهم كأنّما يتعرّفون عليّ لأول مرة ويطالبون بالمزيد من الأخبار والمعلومات والأحداث. يتطوّر المجتمع بلا هوادة وتتتابع الأجيال الواحد تلو الآخر، وإن كنت معروفًا من جانب عند الجيل الأوّل فقد لا يعرفك الجيل الثاني، لكنّ وسائل التواصل الاجتماعّي هذه تقوم بمهمة التحديث وتزيل الغبار عن تلك المعلومات والمواقف التي مرّ عليها الزمن. وهو ما لاحظته من خلال اطلاعي على الإنستغرام ،وخاصة في بلد يُشكّل الشباب فيه النسبة الكبيرة من السكّان. غير أنّ التواصل ليس مقتصرًا على قطر بل يتخطّاه إلى الوطن العربيّ وخارجه. والطّريف أنّه أصبح لزامًا عليّ أن أستمرّ في التواصل مع الناس ونشر الذّكريات والأحداث ووجهات النظر. وأعترفُ أنّني شعرت بشيء من السرور بهذا التواصل الإنسانيّ والفكريّ والثقافيّ، بل كنتُ أنتظر ردود الأفعال على تلك الجوانب من ذكرياتي ورؤاي ووجهات نظري بصفتي دبلوماسيًّا أو مثقّفًا ممّا أوجد تفاعلاً ممتعًا وثريًّا بيني وبين المتابعين لم يكن موجودًا قبل ذلك بتلك الكثافة .وهو ما حفّزني على نشر العديد من الذكريات ذات العلاقة بمسيرتي الفكريّة لم يكن بعضها معروفًا بالقدر الكافي، وسمح بتوثيق بعضالأحداث والتعريف ببعض الشخصيّات ضمن سلسلة من النشراتأطلقتُ عليها «رجال جاد الزمان بهم»23 قدّمتُ فيها مجموعة من الأعلام الذين التقيتُ بهم وهم ينتمون لمختلف القطاعات السياسية والثقافية والفكرية .
إنّ ردود أفعال المتابعين جعلتني أقدّر اهتمام الناس بما كنتُ أنشره وشعرتُ أنّ من حقّهم معرفة أحداث تتعلّق بشخصيّتي ومسيرتي، ولعلّ ذلك كان من بين الدوافع والمحفّزات الرئيسيّة لظهور هذا الكتاب.
تحوّلات الإعلام وأزمة الديمقراطيّة
إنّ العمق الذي أراه في هذه التّحوّلات داخل مجال الإعلام والميديا الجديدة لا ينفصل عن تحوّلات عميقة في المجتمعات والثّقافات. إنّه جزء من أزمة الدّيمقراطيّة نفسها. وأقصد بذلك قيام الدّيمقراطيّة على التّمثيليّة في حين أنّ المجتمع يتّجه بقوّة نحو إضفاء الطّابع التّشاركيّ على الدّيمقراطيّة. فلم يعد المواطن، بعد أن فقد الثّقة في السّياسة على النمّط القديم التّمثيليّ، يثق في ما يراد إقناعه به. وممّا زاد الطّين بلّة ما برهنت عليه النخّب السّياسيّة والقوى الاقتصاديّة والأجهزة الإعلاميّة من هيمنة مفرطة وتبجّح مريب أدَّيَا إلى ضروب من التّلاعب بالناّخبين والجمهور معتمدين في ذلك على آليّات الإعلانات والتّسويق التي وإن حقّقت ظرفيًّا
بعض «النتّائج المُرضيَة» في منطق السّياسيّين، فإنّها أدّت إلى اهتراءمفهوم السّياسة باعتبارها إدارة للمدينة وللشّأن العامّ.
وليس من باب الصّدفة أن ينتشر بسرعة، حتى في قلب مؤسّسات الدّول، الاهتمام بمسائل الحكم الرّشيد والشّفافيّة والمحاسبة وتعلو الأصوات للحديث عن المشاركة السّياسيّة .وهذا كلّه في تقديري وجه من وجوه تفاعل المجتمعَين السّياسيّ والمدنيّ وبناء توازن بين السّلطات المختلفة وبالخصوص تدعيم السّلطة النقديّة المضادّة. والحاصل من هذا كلّه هو تغييرٌ في الثّقافة عامّة والثّقافة السّياسيّة على وجه الخصوص بكسر منطق الاحتكار ،سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا، وتجاوز الفصل الحادّ بين النخّبة العارفة المتعالية والجماهير الجاهلة عديمة الرّأي.
بالقدر نفسه تهاوت مفاهيم كثيرة قالت بها الإيديولوجيّة الماركسيّة التي احتكرت لفترة طويلة النقّد الاجتماعيّ. وأعود مجدّدًا إلى الكتاب القيّم للصادق الحمّامي الذي استوحَيتُ منه الكثير، إذ يذهب إلى أنّه من بين المفاهيم التي لم تعد صالحة مفاهيم «المثقّف الثّوري» و«المثقّف الطّليعي» و«المثقّف العضويّ» وغير هذا ممّا انتشر في السّتّينات والسّبعينات في ثقافتنا العربيّة على الأقلّ. وبسبب نزع هذه الهالة عن صور المثقّف القديمة فإنّ المثقّف نفسه لم يعد يحتكر النقّد أو إنتاج الرّأي ولم يعد له امتياز الإدراك الصّحيح للواقع وفهم «الوعي المزيّف» الذي تغرق فيه الجماهير. فمأتى سلطته السّابقة إنّما هو توافر المعلومة لديه. أمّا اليوم وقد أتيحت المعلومة للجميع فما مصير المثقّف؟ وهل يمكنهأن يحافظ على وظائفه القديمة مع تطوّر الثّقافة الجماهيريّة والشّعبيّةفي مضمونها وأشكالها وصيغ تداولها؟
لقد برهنت الثّقافة الشّعبيّة حتى قبل هذه الثّورة العارمة التي أحدثتها تكنولوجيّات المعلومات والاتّصال على قدرة جمهور الناّس العاديّين المغمورين على إدراك القوانين الاجتماعيّة وبلورة المعايير والآداب وقواعد العيش معًا والتّكيّف مع ذلك كلّه بسلاسة .وما زاد هذه الثّقافة الشّعبيّة صلابة أنّ العالم الرّقميّ الحافل بالمعلومات والآراء جعل آفاق الناّس ورؤاهم أبعد مدى. ولا نخال أنّ هذه الحقيقة الماثلة أمامنا ستمرّ دون تأثير حقيقيّ عميق بسبب القاعدة العامّة البسيطة القائلة بأنّ الأفكار في سياق تلقٍّ نشطٍ تُعدّل من محتواها ومن قوّتها.
واعتقادي أنّ ما تتيحه تكنولوجيّات المعلومات والاتّصال من علاقة أفقيّة قامت على أنقاض العلاقة العموديّة بين النخّبة والجمهور لم يمسَّ منطلقَ صنع الخبر والتّعليق عليه فحسب بل نشّط أيضًا القدرات التّأويليّة للأفراد سواء ما تعلّق منها بالمحتوى أو السّياقات قبولاً أو ردًّا لها على أصحابها. فمن البيّن أنّ مصدر هذا «التلقّي النشّط» إنّما هو ما يميّز الإنترنت في الأغلب من طابع تفاعليّ يمنع هيمنة إيديولوجيّة واحدة أو نظرة شموليّة معيّنة.
لسنا في كلّ هذا بغافلين عن مخاطر كثيرة تحفّ بما كناّ نذكر .وهي مخاطر أخلاقيّة يمسّ بعضها بحقوق الإنسان نفسها من قبيل المتاجرة بالأطفال والنسّاء، أو المعرفيّة من صنف المعلومات الكاذبة غير الدّقيقة وتقديم «الوجيبات الجاهزة» التي يدسّ فيهاالسمّ في الدّسم، وحتى المخاطر الأمنيّة، من نوع الجريمة المنظّمة والجريمة الإلكترونيّة والإرهاب .
أبواب الحرّيّة
إنّ من المسلّم به على سبيل المثال أنّ وسائل التواصل الاجتماعيّ كما أسلفنا عرفت تطوّرًا هائلاً له تأثير كبير سلبًا أو إيجابًا على حياة الإنسان وفكره. ولهذا التطوّر الهائل الذي يأتي إلى عالمنا وبالذات في منطقة الخليج بما تعرفه من وفرة مادية وتطوّر تكنولوجيّ، مخاطرُهُ الجمّة لأنّه لا يسير في خطّ متوازٍ مع التطوّر الذهنيّ والتعليميّ والاجتماعيّ. وكثيرًا ما تُستخدم هذه الوسائط لتمرير رسائل متنوّعة وتعميق مفاهيم مختلفة وتحديد توجّهات متضاربة دون علم المتلقّي، وهو ما يجعل منها وسائل للنشر والتواصل بقدر ما هي مصادر خطرٍ داهمٍ لمن لا تتوافر لديه القدرات الذهنيّة والنقديّة لتمييز الصالح من الطالح. لذلك يستغلّ أصحاب الأجندات هذه الوسائل في الوقت الذي يفتقد فيه كثير من المتلقّين، إن لم يكن معظمهم، إلى الحصانة المعرفيّة القادرة على وضع الأمور في نصابها. إنّه يتلقّى ويتأثّر ويساهم في النشر متحمّسًا لمواقف معيّنة عن حسن نيّة، ثم يجد نفسه أسيرًا لهذه القناعات ومنقادًا إليها. إضافة إلى أنّ البعض رغم حصوله على المعرفة لا يتوافر لديه الإحساس بالمسؤولية.
ولكن من السّذاجة أن نعتقد أنّ أبواب الحرّية حين تُفتح لا تُحدث ارتجاجات وهزّات ولا تصحبها مخاوف ومخاطر. فالأهمّمن ذلك هو تتبّع الرّؤى الجديدة التي يبتكرها الناّس ويُنتجها الذّكاءالإنسانيّ والتّفطّن إلى التّصوّرات الناّشئة وما تحمله من توسيعلأفق الحرّية وتقريب الناّس والشّعوب بعضها إلى بعض. إنّ الحرّية بمخاطرها الممكنة أفضل ولا ريب من الاستبداد الذي يقضي على إنسانيّة الإنسان وحرّيته الجذريّة وشروط وجوده الدّنيا في التّعبير والتّفكير والتّواصل